كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن
أعظم الهبات التي يهبها الله -سبحانه وتعالى- هي الرحمة والهداية
والتوفيق، فقد يعطي الله -عز وجل- الدنيا لمن أحب ولمن كره، ولكنه لا يعطي
الدين إلا لمن أحب.
وإعطاؤه -عز وجل- الدنيا لمن كرهه؛ لهوانه وهوانها، فإن العطاء الدنيوي بلا عطاء ديني شقاء!
فها هم فقراء المهاجرين أول الناس دخولاً الجنة، فكان حرمانهم عطاء وهبة.
شهود آثار اسم الله الوهاب:
لقد
وهب الله -سبحانه وتعالى- كل مخلوق وجوده، وأعطاه إياه، وهو -سبحانه
وتعالى- يهب لمن يشاء ما يشاء من أمر الدنيا، فيهبه المال، والصحة،
والرياسة، والولد، وعطاؤه -سبحانه وتعالى- في ذلك هبة منه بلا مقابل: (يَهَبُ
لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ . أَوْ
يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) (الشورى:49-50).
وأعظم
الهبات التي يهبها الله -سبحانه وتعالى- لعباده هي الرحمة والهداية
والتوفيق، كما أخبر الله -عز وجل- عن أهل الإيمان إذ يقولون: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران:.
فهم يتوسلون إلى الله -عز وجل- بهذا الاسم -اسم "الوهاب"- أن يهب لهم الرحمة وأن يعطيهم إياها، وذلك بلا مقابل منهم؛
فهداية قلوبهم هبة من الله، ورحمته وثوابه على ذلك هبة منه -سبحانه
وتعالى- أيضًا، وهو -عز وجل- يهب الدنيا لمن أحب ولمن كره، ولكنه لا يعطي
الدين إلا لمن أحب، وإعطاؤه الدنيا لمن كرهه؛ لهوانه وهوانها، فلولا هوان
الدنيا على الله -عز وجل-؛ لما سقى الكافر منها شربة ماء، كما قال النبي
-صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ؛ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
فالدنيا بأسرها شيء تافه ليس له قدر، خلد إبليس فيها إلى يوم يبعثون؛ لهوانه ولهوان الدنيا على الله -عز وجل-،
فهو يعطي الدنيا لمن أحب ولمن كره، ولكنه لا يعطي الدين إلا لمن أحب،
وعطاؤه -عز وجل- الدنيا لمن كره يجعله سببًا لشقائه وعذابه؛ إذا لم يشكر
نعمة الله، ولم يعرف فضله -سبحانه وتعالى-، فيجعل الله -عز وجل- ما يعطيه
له من الدنيا سببًا لعذابه وشقائه، فقد قال الله -سبحانه وتعالى-: (فَلا
تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ
وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة:55).
معاملة اسم الله الوهاب بما يقتضيه من أفعال العباد:
ولذا؛
على العبد أن يسأل الله -عز وجل- أن يهب له طاعته وهدايته ورحمته، فلا
يكون همه العطاء الدنيوي، فإن العطاء الدنيوي بلا عطاء ديني شقاء على
الإنسان، وعذاب ونقمة في صورة نعمة، يحسده الناس عليها ولا يتمتع بها!
فكم
مِن الكفرة والمنافقين يعطيهم الله -عز وجل- الأموال؛ ليشقوا بها ويذلوا
ويخضعوا لها ويعبدوها من دون الله، ويعطيهم الأولاد فيكون هؤلاء الأولاد
سببًا في شقائهم.. في تنشئتهم، ثم في عقوقهم، ثم في مفارقتهم إلى غيرها مِن
أنواع الأذى التي تصلهم من أولادهم، وهذا من جزاء عملهم.
فقد صرفوا هبة الله -عز وجل- التي وهبهم إياها في غير طاعته، واستغلوها في غير عبادته، فجعلها الله -عز وجل- نقمة عليهم وعذابًا لهم، فهو "الوهاب" -سبحانه- الذي كل موهوب وصل إلى خلقه فمن فيض بحار جوده، وفضله ونعمائه الزاخرة، كما أخبر -سبحانه وتعالى-: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) (النحل:53).
وكما
ذكرنا في عطاء الله -عز وجل- الدين لعبده، فهو وإن لم يهب له أشياء من
الدنيا فإن ما وهبه الله إياه من الدين، وما أعطاه له من الطاعة يجعل ما
حرمه الله -سبحانه وتعالى- من الدنيا عطاء آخر رحمة به وفضلاً عليه، فها هم
فقراء المهاجرين أول الناس دخولاً الجنة ومرورًا على الصراط، كما قال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-: (فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِخَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، فكان حرمانهم عطاء وهبة.
الرزق قوت.. والزاد زاد الراكب:
وتأمل سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- من ربه الدنيا كيف يكون؟ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا) (متفق عليه)،
فطلب الرزق من الله -عز وجل-.. طلب أن يرزقه الذي يقيته هو وأهله دون
زيادة! وهو حينئذٍ في أسعد وأحسن أحواله، والقوت هو: ما يكفي دون زيادة،
فانظر إلى ما ينبغي أن يطلب العبد من الدنيا.
ولذا؛
أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يكون زاد أحدهم من الدنيا كزاد
الراكب، فعن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: (إِنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ مِنَ الدُّنْيَا مِثْلُ زَادِ الرَّاكِبِ) (رواه الطبراني والبيهقي، وصححه الألباني).
أما
أن يسأل الإنسان ربه -عز وجل- الدنيا.. مع أن سؤال العبد ربه -عز وجل- خير
في ذاته، ولكن أن يسأله الإنسان الدنيا فإن ذلك ليس من هدي المؤمنين كاملي
الإيمان؛ فكيف إذا كان سؤال الدنيا مِن غير الله -عز وجل-؟!
فكيف إذا كان سؤالها بإغضاب الله -سبحانه وتعالى- وإسخاطه وإرضاء عباده؟!
فلا تكون نعمة بل نقمة، ولا تكون عطاء، بل منعًا؛ حتى وإن ظن الناس أنه قد وُهب الكثير!
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.